WVB's محتوى الأخبار
» نص الحكم التاريخي الخاص بالفائدة للمحكمة العليا في باكستان
دراسة موضوعية للآيات القرآنية التي تناقش الربا
تعريف الربا كما قدمه مفسرون القرآن االكريم
مقولة سيدنا عمر- رضي الله عنه – عن غموض مفهوم الربا
بعض الاعتراضات على التمويل بالمشاركة
مقدمة
قضت محكمة الاستئناف الشرعية العليا بباكستان حكمها التاريخي في 14 رمضان، 1420 بحظر الفائدة بجميع أشكالها. وشمل نص الحكم الكامل حوالي 1100 صفحة من بينها 250 صفحة كتبها مولانا القاضي تقي عثماني وسنطرح هنا ملخص ما كتبه.
الجزء الخاص بالقاضي محمد تقي عثماني
قامت الحكومة الاتحادية في باكستان وبعض البنوك والمؤسسات المالية بتقديم 67 طعن قضائي ضد حكم محكمة الاستئناف الشرعية العليا. حاول معظم المستأنفين إثبات أن المعاملات الحديثة القائمة على الفائدة لا تقع تحت تعريف الربا الذي حرمه القرآن الكريم. كما حاول البعض إثبات أن الفائدة التجارية للنظام المالي الحديث جائزة وفقًا لمبدأ الضرورة. للفصل في هذه المسائل قمنا بدعوة عدد من الخبراء والفقهاء من علماء الشريعة والاقتصاديين والمصرفيين والمحاسبين وممثلين من التجارة الحديثة ممن ساندوا المحكمة بمجالات تخصصهم.
نزلت آيات الربا في أربع سور مختلفة بمناسبات مختلفة.
أولًا في سورة الروم (سورة مكية) حيث ذكرت الربا كما يلي:
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه.. }(الروم 30:39)
ثانيًا ذكرت الربا في سورة النساء في سياق أفعال اليهود الآثمة:
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْه.. } (النساء 4:161)
ثالثًا في سورة آل عمران ظهر تحريم الربا كما يلي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة..} (آل عمران 3:130)
رابعًا في الآيات التالية من سورة البقرة كا يلي:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} (البقرة 2: 275-281)
يقدر أن السورة الثالثة التي ذكر بها الربا وهي سورة آل عمران نزلت في العام الثاني بعد الهجرة وذلك لأن سياق الآيات التي تسبقها والتي تليها يشير إلى غزوة أحد التي كانت في العام الثاني بعد الهجرة. تحوى هذه الآية تحريمًا واضحًا للمسلمين ويمكن القول أنها أول آية من القرآن الكريم تحرم ممارسة الربا للمسلمين بعبارات صريحة. ولذلك ذكر الحافظ بن حجر العسقلاني- أشهر شارح لحديث البخاري- أن تحريم الربا كان في وقت قريب من غزوة أحد. تؤكد دراسة هذه الآيات من القرآن الكريم في ضوء الخلفية التاريخية لها بشكل واضح أن تحريم الربا كان على الأقل في العام الثاني من الهجرة. ومع ذلك هاجم بعض المستأنفين والمستشارين القانونيين ما ذكره العسقلاني وأصروا أن تحريم الربا كان في آخر عام من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث ذكروا أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أعلن تحريم الربا في خطبته الأخيرة مما يعني أن تحريم الربا لم يكن قبل الحج الأخير للرسول –صلى الله عليه وسلم- أي قبل العام العاشر بعد الهجرة. في الواقع نزل تحريم الربا في العام الثاني من الهجرة على الأقل ولكن الرسول –صلى الله عليه وسلم- رأي أنه من الضروري ذكر أوامر الإسلام في خطبته الأخيرة التي حضرها أكبر جمع من تابعينه.
لم يعطي القرآن الكريم أي تعريف للفظ الربا لإنه كان معروفًا لمستمعينه في ذلك الوقت حيث أن استخدامه لم يقتصر على العرب بل استخدمته جميع المجتمعات السابقة في معاملاتهم المالية، ولم يلتبس على أحد المعنى الدقيق للكلمة.
تعريف الربا كما قدمه مفسرون القرآن االكريم
عند تفسير أدب الحديث النبوي لكلمة ربا ذكر بالتفصيل معاملات الربا التي اعتاد عرب الجاهلية استخدامها بناءًا على تعريف المفسرين الأوائل للقرآن الكريم لمصطلح ربا بوضوح. فسر الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن الربا كما يلي:
"والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به"
كما عرفه الجصاص في الكلمات الآتية:
" هو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض"
أشار السيد رياض الحسن جيلاني، الفقيه القانوني لاتحاد باكستان، أن الربا المحرم في القرآ ن الكريم كان ينحصر على طلب مبلغ مقابل إعطاء وقت إضافي للمدين. ولذلك إذا اشترط تحديد مبلغ زائد في الاتفاق الأولي للقرض فلا يدخل هذا ضمن ربا القرآن. على سبيل المثال، نقل السيد جيلاني عن بن جرير الطبري الشهير عن مجاهد تفسير ربا الجاهلية كما يلي:
"كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني."
لم نقتنع برأي الفقيه القانوني على الإطلاق. بن جرير نفسه فسر ربا الجاهلية عن قتادة كما يلي:
"عن قتادة أن ربا الجاهلية بيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عنده صاحبه قضاء زاده آخر عنه"
كما أعطى السيوطي نفس التفسير عن الفرابي كما يلي:
" كانوا يبتاعون إلى الأجل، فإذا حل الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل."
توضح هذه الاقتباسات أن المعاملة التي اعتاد الدائن أن يتحمل بها مبلغًا إضافيًا على تاريخ الاستحقاق لم تكن معاملة قرض بل كانت في البداية معاملة بيع لسلعة ما على أساس الدفع المؤجل. واعتاد البائع أن يحدد سعرًا أعلى مقابل الدفع المؤجل وإذا لم يدفع المشتري ما عليه في تاريخ الاستحقاق يستمر البائع في تزويد المبلغ مقابل الوقت الإضافي الذي يعطيه للمشتري.
كانت السمة المشتركة في معاملات عرب الجاهلية تحميل مبلغ زائد على المبلغ الأساسي للدين. بعض الأوقات كان الدين يمثل معاملة بيع وأوقات أخرى يمثل معاملة قرض. بعض الأوقات أيضًا كان المبلغ الإضافي يدفع شهريًا في حين يدفع المبلغ الأساسي في تاريخ محدد وأوقات أخرى يدفع المبلغ الزائد مع الأساسي. جميع تلك الأشكال تسمى ربا لأن المعنى المعجمي للمصطلح هو زيادة. لذلك عرف مفسروا القرآن الكريم مثل الإمام أبو بكر الجصاص الربا كما يلي:
"هو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض"
نأتي الآن للنقاشات المقدمة لنا ضد تحريم الفائدة الحديثة.
مقولة سيدنا عمر- رضي الله عنه – عن غموض مفهوم الربا
ذكر السيد أبو بكر چندریگر، الفقيه القانوني لبنك حبيب أن مصطلح ربا المستخدم في القرآن الكريم مصطلح غامض حتى أن معناه الصحيح لم يفهمه بعض صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. أشار السيد أبو بكر إلى مقولة سيدنا عمر رضي الله عنه أن آيات الربا كانت من بين آخر آيات القرآن الكريم وقد رحل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تفسيرها لنا ولذلك علينا أن نتجنب الربا وأي شئ مشكوك في أمره. كما أكد هو وبعض المستأنفين أن القرآن الكريم أمرنا أن نتبع الآيات المحكمات ولا نتبع المتشابهات ولذلك آيات الربا غير قابلة للتطبيق لكونها من وجهة نظرهم آيات متشابهات.
تعد هذه الحجة حجة خاطئة لأن الله تعالى في سورة البقره قد أعلن الحرب على من لا يتجنب ممارسة الربا. فكيف أن الله تعالى يعلن الحرب على ممارسة فعل لا يعلم طبيعته أحد؟ كما أن الآيات المتشابهات في القرآن الكريم لا تشير أبدًا إلى مبدأ تشريعي عملي، بل دائمًا ما تشير إلى مسائل غير عملية لن يؤثر فهمها على حياة المسلم مثل صفات الله لا إلى شئ حرمه الله كليًا.
زعم بعض المستأنفين أن ربا القرآن الكريم يشمل فرض زيادة في حالة القروض الاستهلاكية فقط عندما يكون المقترضون من الفقراء الذين يقترضون المال لتلبية احتياجاتهم اليومية من الأغذية والملابس إلخ. على العكس عند فرض زيادة على الأغنياء الذين يقترضون المال لتطوير مشاريعهم التجارية فهذا لا يعد ربا.
هذه الحجة أيضًا غير مقنعة للعديد من الأسباب. أولًا صحة المعاملة لا تعتمد على الوضع المالي للجماعة بل على طبيعتها الجوهرية. على سبيل المثال الرشوة غير قانونية سواء دفعها الغني أو الفقير. ثانيًا الآيات القرآنية التي حرمت الربا لا تفرق بين قرض استهلاكي وإنتاجي ولم يوجد هذا التفريق في السنة أيضًا. قد حرم القرآن الربا بجميع أشكاله سواء كانت رائجة في وقت تنزيله أم لا. على سبيل المثال، عند تحريم القمار لم يكن الغرض اقتصار تحريمه على أشكال القمار التي كانت شائعة في ذلك الوقت، بل شمل التحريم أشكاله في الحاضر والمستقبل ولا يستطيع احد أن يجادل على أن أشكال القمار المعاصرة لا تدخل ضمن التحريم. ثالثًا تم اكتشاف أن جميع أنواع القروض القائمة على فائدة كانت منتشرة قبل ميلاد المسيح وعلى ذلك كانت منتشرة عند تحريم الربا. قبل مجئ الإسلام كان للعرب وخصوصًا عرب مكة علاقات تجارية مع إمبراطورية روما والتي كانت تتعامل بالقروض والتداولات القائمة على فائدة. كما أن المناخ التجاري المزدهر عند العرب وقتها يظهر كم كانوا على دراية بالقروض التجارية. ولذلك لا يصح القول بأن تحريم الربا يقتصر على القروض الاستهلاكية فقط ولا يشير إلى القروض التجارية.
ظهرت حجة أخرى تؤكد أن تحريم الربا يقتصر على المعاملات ذات معدل الفائدة الفادح أو المفرط. تدعم هذه الحجة، كما يعتقد المستأنفون، آية من سورة آل عمران:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَة..} (آل عمران 3:130)
حددت الآية التحريم بكلمتي "أَضْعَافًا مُّضَاعَفَة" للإشارة أن ممارسة الربا محرمة حينما يكون معدل الفائدة مفرط إلى درجة أن يكون المبلغ الواجب دفعه ضعف الأساسي أما إذا كان المعدل منخفض فلا ينطبق التحريم. عادة ما تكون الفائدة في النظام المصرفي المعاصر ليست كبيرة للحد الذي يجعل المبلغ الواجب دفعه ضعف الأساسي.
أوضحت هذه الحجة حقيقة أنه لا يمكن تفسير آية بعيدًا عن المواد الأخرى ذات الصلة المذكورة في أجزاء أخرى من القرآن الكريم. فموضع الربا مذكور في سورة البقرة بالأمر الآتي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.. } (البقرة 2:278)
فيتضح أن كل مبلغ زائد عن المبلغ الأساسي يجب تركه. كما أن كلمتي "أَضْعَافًا مُّضَاعَفَة" لا يمثلا الشروط المقصورة على تحريم الربا ولكن يشيرا إلى النوع الأسوأ لاستخدام الربا بكثرة في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال عندما قال الله تعالى:
{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً..}
لم يقصد الله تعالى توجيه اللوم على الثمن القليل الذي يتم اكتسابه بل على بيع الآيات ذاتها. كما أكد الحديث أن تحريم الربا يشمل كل مبلغ زائد عن الأصل مهما كان صغير. عن حمد بن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا ارتهن شاه شرب المرتهن من لبنها بقدر علفها فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربا."
يتعلق ربا الفضل بمعاملات مقايضة محددة حرمها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حيث استخدم العرب بعض السلع لشراء أشياء أخرى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيدا، فمن زاد أو استزاد فقد أربى."
أكد السيد رياض الحسن، الفقيه القانوني لاتحاد باكستان أن أي زيادة محددة في المعاملة الأولية للقرض هي من ربا الفضل وليس ربا القرآن. ونظرًا لأن معظم المعاملات المصرفية اليوم تحدد الفائدة منذ بداية المعاملة، فلا تنتمي وفقًا لرأي المستشار إلى تحريم ربا القرآن بل يحكمها قواعد ربا الفضل الذي لا يعد تحريمه من التزامات الدولة. أسند المستشار حجته على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور أعلاه والذي يوضح أن بيع سلع محددة كالذهب والفضة جائز بشرط إتمام المبادلة في الحال لأن قيمة هذه السلع متغيرة. ومن هنا تقع القروض سواء كانت بفائدة أو بدون فائدة تحت تعريف ربا الفضل لكونها قائمة على الدفع المؤجل.
هذه الحجة غير مقنعة أيضًا. يتحدث حديث ربا الفضل عن معاملات البيع فقط ولا يتصل بمعاملات القروض التي تنتمي لأحكام ربا القرآن أو ربا الجاهلية التي أشارت بوضوح إلى حق الدائن في استرداد المبلغ الأساسي فقط، وإن فعل ذلك فليس عليه تحريم. فلا يصح القول أن القرض الذي يحمل فائدة ويحدد قيمتها منذ بداية المعاملة لا يدخل ضمن تحريم ربا القرآن وأن الفائدة المصرفية لكونها من ربا الفضل لا تعد حرام.
تتحدث الحجة التالية التي قدمها بعض المستأنفين عن السبب الرئيسي (العلة) لتحريم الربا وهوالظلم من وجهة نظرهم. قال الله تعالى:
{َوإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة 2:279)
ففي حالة وجود ظلم ينبغي اعتبار المعاملة ربا ومن ثم محرمة ولكن إن لم يكن هناك ظلم فلا ينبغي تحريمها.
ركز المستأنفون على الظلم كسبب رئيسي وراء تحريم الربا ولم يتصورا الحكمة التي تمثل المنفعة المقصود تحقيقها بتنفيذ قانون ما. والحكمة لا تقتصر على أحكام القرآن ولكنها معروفة في القوانين العلمانية أيضًا. على سبيل المثال أجبر القانون السيارات التي تجري على الطريق أن تقف عند رؤية الضوء الأحمر، فعلة هذا القانون الضوء الأحمر في حين أن الحكمة هنا تجنب فرص وقوع الحوادث. لن يعتمد تطبيق هذا القانون على إن كان هناك حادث أم لا ولكنه سيسري بقوته الكاملة لأن الضوء الأحمر الذي يمثل العلة الحقيقية للقانون ظاهر. بعد تحريم الربا ذكر القرآن الكريم الظلم كحكمة أو فلسفة لهذا التحريم، ولكن هذا لا يعني أن التحريم لن يطبق إن كان عنصر الظلم مفقود في حالة ما. هنا علة التحريم هي الزيادة المطلوب دفعها على المبلغ الأساسي في معاملة القرض وحالما وجدت سيأتي التحريم بصرف النظر عن وضوح فلسفة هذا الحكم أو لا بمعاملة محددة. كما أن الظلم لا يمثل الحكمة الوحيدة أو الهدف الوحيد لتحريم الربا. الأسباب البشرية بوجه عام لا تستطيع إدعاء امتلاك قوى مطلقة للوصول إلى الحقيقة بالرغم من قدراتها الواسعة بالإضافة إلى وجود الصراع البشري بين السبب والرغبة. وهذا بالتحديد ما حدث عندما حاول البشر تبرير الربا وفقًا لأسبابهم البشرية ورغباتهم. كان العقلانيون العلمانيون على كامل الاقتناع أن معاملات الربا التي يمارسونها مبررة تمامًا لأن الدخل الذي يربحونه من الفائدة يشبه كثيرًا الدخل الذي يربحونه من البيع، بالإضافة إلى تأكيد الحجة على خلو الفائدة التجارية أو المصرفية من عنصر الظلم.
تعد معاملة المال كسلعة احدى الافتراضات الخاظئة التي تعتمد عليها جميع نظريات الفائدة. ولذلك يجادل البعض أنه كما يستطيع التاجر بيع سلعته بسعر أعلى من التكلفة، فيستطيع أيضًا أن يبيع ماله بسعر أعلى من قيمته الظاهرية أوكما أن يقوم بتأجير ملكيته مقابل رسم للإيجار فيستطيع أيضًا إقراض ماله والمطالبة بفائدة عليه. إلا أن القواعد الإسلامية أوضحت أن المال والسلع يتسمان بخصائص مختلفة ولذلك يتم التعامل معهما بشكل مختلف. تعد نقاط الاختلاف الرئيسية بين المال والسلعة كما يلي:
- المال ليس به منفعة جوهرية حيث لا يمكن استخدامه لتحقيق احتياجات البشر بشكل مباشر، بل يمكن استخدامه فقط لشراء السلع أو الخدمات. أما السلعة فلها منفعة جوهرية ويمكن استخدامها بشكل مباشر بدون تبديلها إلى شئ آخر.
- السلع يمكن أن تتسم بجودات مختلفة أما المال فليس له جودة باستثناء كونه مقياس للقيمة أو وسيط للتبادل ومن ثم فإن جميع وحدات المال من نفس الفئة أي 100% تعد مساوية لبعضها البعض فورقة ال 1000 روبية القديمة والمتسخة لها نفس قيمة ورقة ال 1000 روبية الجديدة.
ج) معاملات البيع والشراء تتم على سلعة بعينها فإذا كان أ اشترى سيارة محددة بالإشارة إليها ووافق البائع فيستحق استلام السيارة نفسها ولا يستطيع البائع إجباره على أخذ سيارة أخرى حتى إن كانت من نفس النوع والجودة. على النقيض، لا يمكن الإشارة إلى المال في معاملة تبادل. إذا كان أ يشتري من ب سلعة معينة واظهر له ورقة 1000 روبية محددة فلا يزال يمكنه دفع ورقة أخرى من نفس الفئة.
بناءًا على هذه الاختلافات الأساسية، تتعامل الشريعة الإسلامية مع المال والسلع بشكل مختلف وخصوصًا في أمرين:
أولًا المال (من نفس الفئة) ينحصر استخدامه في هدفه الرئيسي أي في أن يكون وسيطًا للتبادل ومقياسًا للقيمة.
ثانيًا إذا لزم استبدال مال مقابل مال أو تم اقتراضه لأسباب استثنائية ، ينبغي أن يكون الدفع متساويًا من الجانبين لكي لا يستخدم المال لهدف غير الهدف المقصود أي التجارة في المال ذاته.
لقد ناقش الإمام الغزالي (ت 505 هـ) -الفقيه وفيلسوف التاريخ الإسلامي المعروف- طبيعة المال في فترة مبكرة عندما كانت النظريات الغربية عن المال غير موجودة. يقول الإمام الغزالي:
المال ليس هدف في حد ذاته ولكنه أداة تؤدي إلى كل الأهداف. لذلك فإن الشخص الذي يستخدم المال بأسلوب يناقض هدفه الأساسي يتغافل عن نعم الله ونتيجة لذلك من يدخر المال يظلمه ويهزم أهدافه الحقيقية مثل الشخص الذي يحجز الحاكم في السجن.. ومن يتمم معاملة بوضع فائدة على المال يتغافل عن نعم الله في الواقع ويرتكب ظلمًا لأن المال خلق لأشياء أخرى. ومن ثم فإن الشخص الذي بدأ التجارة في المال ذاته جعل منه هدف مناقض للحكمة الأصلية وراء خلقه فليس من العدل استخدام المال لهدف غير الذي خلق من أجله.. وإذا سمح له التجارة في المال ذاته سيصبح المال هدفه النهائي وسيظل حبيسًا معه كالمال المكنوز، وليس من العدل حبس حاكم أو منع ساعي بريد من توصيل رسائله.
ولقد أخذ الإمام الغزالي مفهوم "وسيط التبادل" لنهايته المنطقية حيث استنتج أنه لا يمكن جعل المال أداة تجلب الربح عند استبداله بمال من نفس الفئة. وقد أقر بعض العلماء الواقعيين حتى في المجتمعات التي يغلب عليها الفائدة صحة هذا المنهاج الذي تدعمه التعاليم الواضحة للقرآن الكريم والسنة بشكل كامل. فاعترف كثير منهم بعد مواجهة العواقب الوخيمة لنظامهم المالي القائم على التجارة في المال أن الأزمة الاقتصادية التي حدثت لهم نتجت عن أسباب من ضمنها أن المال لم ينحصر استخدامه كوسيط للتبادل. أثناء الكساد الهائل في الثلاثينيات من القرن الماضي قامت غرفة ساوثامبتون التجارية بتشكيل "لجنة للأزمة الاقتصادية" في يناير 1933 وبعد مناقشة أخطار النظام المالي الحالي كانت احدى توصيات اللجنة:
" من أجل ضمان قيام المال بأداء وظيفته الحقيقة كوسيلة للتبادل والتوزيع، ينبغي التوقف عن التجارة به كسلعة."
أصبحت المسالة الآن معروفة لدى علماء الاقتصاد المعاصرين على نحو متزايد. يلاحظ جيمس روبرتسون في آخر أعماله تحويل الحياة الاقتصادية ما يلي:
"يعد نظام المال والتمويل اليوم نظامًا غير عادلًا ومدمر بيئيًا وغير ناجح اقتصاديًا، فقد دفع إلزام نمو المال الإنتاج (ومن ثم الاستهلاك) إلى مستويات أعلى من المستويات الضرورية ومال الجهد الاقتصادي نحو صنع المال من المال بدلًا من تزويد الخدمات والسلع الحقيقية... كما نتج عن ذلك تحويل هائل للجهد من توفير السلع والخدمات النافعة إلى صنع المال من المال على مستوى العالم. 95% على الأقل من بلايين الدولارات المحولة يوميًا حول العالم يتم توجيهها لمعاملات مالية خالصة ، منفصلة عن المعاملات في الاقتصاد الحقيقي."
وهذا تحديدًا ما أوضحه الإمام الغزالي منذ 900 عام. كما أوضح الإمام العواقب الوخيمة لمثل هذه التجارة غير الطبيعية في موضع آخر كما يلي:
"يحرم الربا (الفائدة) لأنه يمنع الناس من مباشرة الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، فعندما يسمح لمن يمتلك مالًا أن يكسب المزيد من المال على أساس الفائدة إما فورًا أو في معاملات مؤجلة سيسهل عليه الكسب دون إزعاج نفسه ببذل جهد كبير في الأنشطة الاقتصادية الحقيقية مما يعيق المصالح الحقيقية للبشرية لأن المصالح البشرية لا يمكن حمايتها بدون مهارات تجارية حقيقية وصناعة وبناء."
ومن ثم فإن جعل المال هدف لتجارة مربحة يعيق النظام النقدي بأكمله ويزيد من المخاطر الاقتصادية والأخلاقية للمجتمع كله.
هناك اختلاف آخر رئيسي بين النظام الرأسمالي العلماني والقواعد الإسلامية يتمثل في أن القروض ، وفقًا للنظام العلماني، تعد معاملات تجارية خالصة للحصول على دخل ثابت للدائنين. أما الإسلام فلا ينظر إلى القروض كمعاملات مولدة للدخل بل هي للمقرضين الذين لا ينتوون كسب عائد دنيوي منها فإما يقوموا بإقراض مالهم على أسس خيرية من أجل الثواب في الآخرة أو لمجرد حفظ مالهم بأيدي آمنة. وفيما يخص الاستثمار هناك العديد من نظم الاستثمار الأخرى مثل الشراكة والتي يمكن استخدامها لهذا الغرض. أما معاملات القروض فليست لكسب الدخل.
إن الفلسفة الأساسية التابعة لهذا البرنامج هي أن الشخص الذي يقدم ماله لشخص آخر عليه أن يقرر إما:
- إنه يقرضه المال من باب العطف
- أو إنه يقرضه المال لكي يحافظ على المبلغ الأساسي
- أو إنه يقدم ماله ليشارك في أرباح المقترض.
في حالتي (أ) و(ب) لا يحق له أي مبلغ إضافي على المبلغ الأساسي. أما إذا كان ينوي مشاركة أرباح المقترض كما في حالة (ج) فعليه أن يشاركه في خسارته أيضًا إذا عانى من خسارة. وفي هذه الحالة لن يتحقق هدفه بمعاملة قرض بل سيكون عليه مباشرة مشروع مشترك مع الطرف المقابل والذي بموجبه يكون للطرفين حصة مشتركة في النشاط والمشاركة في العوائد على أساس عادل. على النقيض إذا كان الهدف من مشاركة ربح المقترض قائمًا على قرض بفائدة فهذا يعني أن الممول يريد ضمان ربحه بينما يترك المقترض تحت رحمة الناتج الحقيقي للنشاط ويتضح هذا بشكل خاص في حالات الخسارة الكبيرة أو الربح الهائل التي تسبب الظلم لاحدى الطرفين. أجازت الشريعة اقتراض المال في حالات الحاجة القصوى فقط للحد من استخدام القروض وصدت عن ممارسة الديون المتكبدة لتكبير ثروة الأفراد. ما إن تباح الفائدة وتصبح القروض صورة من صور التجارة المربحة، يتحول الاقتصاد بأكمله إلى اقتصاد موجه للدين لا يقتصر على سيادة الأنشطة الاقتصادية الحقيقية وإعاقة وظائفه الطبيعية بإحداث صدمات متكررة فقط بل يضع البشرية بأكملها تحت عبودية الدين. لا يخفى أن جميع أمم العالم - بما فيها البلدان المتطورة – غارقة في الديون القومية والأجنبية إلى حد أن مقدار الديون المستحقة في عدد كبير من الدول يتجاوز إجمالي الدخل لديها. على سبيل المثال في عام 1963 كانت الديون المنزلية أقل من 30% من إجمالي الدخل السنوي في المملكة المتحدة بينما ارتفعت النسبة إلى أكثر من 100% من إجمالي الدخل في 1997، مما يعني أن الديون المنزلية في الدولة للأغنياء والفقراء على حد سواء تمثل أكثر من مجموع الدخل السنوي للدولة. علق بيتر واربورتون، أحد المعقبين الماليين في المملكة المتحدة وأحد الحاصلين على جائزة التنبؤ الاقتصادي في الماضي، على هذه الحالة كما يلي:
"تنمو أسواق الائتمان ورأس المال بسرعة كبيرة مع قلة الشفافية والمساءلة
، فتأهبوا لانفجار يزعزع النظام المالي الغربي حتى الأساس."
دائمًا ما تتجه القروض القائمة على فائدة لصالح الأغنياء ضد مصالح البسطاء فتؤثر بالسلب على الإنتاج وتوزيع الموارد والثروات. بعض من هذه الآثار السلبية ما يلي:
- الآثار الضارة على توزيع الموارد
تدفع القروض في النظام المصرفي الحالي بشكل رئيسي لمن يستطيع تقديم ضمان مرضي معتمدًا على قوة ثروته، وبالتالي يتوزع رأس المال بطريقة غير عادلة.
- الآثار الضارة على الإنتاج
تشجع الفائدة الناس على العيش فوق قدرة تحملهم فالأغنياء لا يقترضوا من أجل مشاريعهم الإنتاجية فقط بل للاستهلاك المفرط أيضًا والحكومات لا تقترض من أجل برامج التطوير الحقيقي فقط بل للنفقات البازخة والمشروعات التي تحركها الطموحات السياسية. 46% من إجمالي مصاريف دولتنا يخصص لخدمة الدين وفقًا لميزانية 1998 / 99، بينما يخصص 18% فقط للتنمية التي تشمل التعليم والصحة والبنية التحتية.
ج) الآثار الضارة على التوزيع
لقد أوضحنا بالفعل أنه عند تمويل نشاط تجاري على أساس فائدة قد يظلم إما المقترض في حالة الخسارة أو الممول في حالة كسب المدين أرباح طائلة. وعلى الرغم من إمكانية حدوث الحالتين في النظام القائم على فائدة وهناك العديد من الأمثلة التي أدى دفع الفائدة بها إلى افتقار كامل لصغار التجار، فإن الظلم الذي يتعرض له الممول في النظام المصرفي الحالي أكثر ظهورًا وأكثر إعاقة للتوزيع العادل للثروات. تقوم معظم البنوك والمؤسسات المالية بتمويل جميع المشاريع التجارية الضخمة وفي حالات عديدة تقل الأموال التي يقوم كبار رجال الأعمال بتشغيلها بكثير عن تلك التي يقترضوها من البسطاء عبر البنوك والمؤسسات المالية. فإذا كان رجال الأعمال لديهم 10 مليون فقط وحصلوا على 90 مليون من البنوك لبدء مشاريع ضخمة مربحة فهذا يعني أن 90% من المشاريع كانت من أموال المودعين و 10% فقط من رأس مالهم. وإذا حققت هذه المشاريع الضخمة أرباحًا هائلة ستذهب نسبة قليلة (من الفائدة التي عادة ما تتراوح بين 2% إلى 10% بالبلدان المختلفة) للمودعين الذين شاركوا في المشاريع بنسبة 90% بينما يضمن رجال الأعمال باقي الأرباح بالرغم من أن نسبة مشاركتهم بالمشاريع لا تزيد على 10%.
أوضح جيمس روبرتسون بإيجاز كيف يعمل النظام الحالي القائم على الفائدة في صالح الغني ويقتل الفقير كما يلي:
"يقوم نظام النقد والتمويل بنقل الإيرادات من الفقراء إلى الأغنياء، ومن الأماكن الفقيرة إلى الأماكن الغنية، ومن الدول الفقيرة إلى الدول الغنية بشكل منظم... يرجع أحد أسباب نقل الثروة من الفقير إلى الغني إلى طريقة دفع الفائدة وقبضها في الاقتصاد."
د) انتشار المال الاصطناعي والتضخم
لا يتصل الدعم المالي داخل البنوك والمؤسسات المالية بالسلع والخدمات التي تم إنتاجها بالفعل على أرض الواقع نظرًا لأن القروض التي تحمل فائدة ليس لها صلة محددة بالإنتاج الفعلي والممول عادة لا يهتم بكيفية استخدام المقترض لأمواله بعد حصوله على ضمان قوي. ومن هنا يحدث سوء توافق خطير بين الدعم المالي وإنتاج السلع والخدمات ويعد هذا أحد العوامل الرئيسية وراء حدوث التضخم أو تزويده.
تتفاقم هذه الظاهرة إلى حد مرعب مع وجود خاصية شهيرة لدى البنوك المعاصرة عادة ما تسمى "صنع المال" حتى أن الكتب التمهيدية في الاقتصاد تفسر عادة كيف تصنع البنوك المال. يرجع تاريخ "صنع المال" إلى القصة الشهيرة لصناع الذهب بالعصور الوسطى في إنجلترا حيث اعتاد الناس إيداع مسكوكاتهم الذهبية لديهم واعتادوا هم إصدار إيصال للمودعين. ولتسهيل العملية بدأ صناع الذهب إصدار إيصالات لحاملها اتخذت مكان المسكوكات الذهبية تدريجيًا وبدأ الناس استخدامها في تسوية التزاماتهم، وعندما حظت هذه الإيصالات بقبول واسع في السوق أصبح لم يأت إلا عدد قليل من المودعين ليطالبوا بذهبهم الحقيقي. ومن هنا بدأ صناع الذهب سرًا إقراض بعض من الذهب المودع لديهم ومن ثم بدأوا في كسب فائدة على هذه القروض، وبعد مرور بعض الوقت اكتشفوا إمكانيتهم لطبع أموال (أي شهادات إيداع ذهب ورقية) أكثر من الذهب المودع لديهم فعليًا وإقراض هذا المال الزائد بفائدة. واستمروا على ذلك وكان هذا ميلاد "صنع المال" أو "إقراض الاحتياطي الجزئي" مما يعني إقراض مال يزيد عن ما يمتلكه الشخص كاحتياطي للودائع.
مع مرور الوقت تحولت هذه الممارسة المحتالة إلى الممارسة الرائجة في البنوك المعاصرة تحت اسم نظام "الاحتياطي الجزئي" والحاصل النهائي هو أن البنوك المعاصرة تصنع المال من لا شئ. تنخفض نسبة النقد الحقيقي الذي تصدره الحكومات باستمرار في معظم الدول، في حين تزداد نسبة النقد الذي تصنعه البنوك من لا شئ. باتخاذ مثال المملكة المتحدة وفقًا لإحصائيات عام 1997 يتضح أن إجمالي المخزون النقدي بالدولة كان 680 بليون جنيه من بينهم 25 بليون جنيه فقط أصدرتهم الدولة في شكل عملات معدنية وأوراق نقدية أما الباقي أي 655 بليون جنيه كانوا من صنع البنوك. هذا يعني أن النقد الأصلي الخالي من الدين يبلغ 3.6% من الدعم المالي بأكمله بينما 96.4% لا يمثل سوى وهم صنعته البنوك.
يقدر بأن أكثر من 150 تريليون دولار أمريكي تتداوله الأيادي في العالم في حين يمثل إجمالي الناتج المحلي لجميع المائة وثماني وثمانين دولة بالعالم ما يقرب من 30 تريليون دولار أمريكي فقط. 80% من هذه التجارة على الأغلب في أيدي بعض البنوك الكبرى التي تبلغ 24 بنك وصناديق الاستثمار. ولذلك تحول اقتصاد العالم بأكمله إلى منطاد كبير يزداد تضخمه يوميًا بالديون الجديدة والمعاملات المالية الجديدة التي لا تتصل على الإطلاق بالاقتصاد الحقيقي وهذا المنطاد الكبير معرض لصدمات السوق ويمكن تفجيره في أي وقت. في الواقع تعد المخاوف العالمية التي تسببها الفائدة التجارية أبعد عمقًا من القروض الربوية الفردية التي اعتادت التأثير على بعض الأفراد فقط.
حاول بعض المستأنفين تبرير الفائدة التي تدفعها البنوك على أساس أن قيمة المال تنخفض باستمرار ومن ثم فإن أخذ الفائدة ما هو إلا تعويض عن تآكل قيمة المال أثناء فترة الاقتراض. فقد أكد المستأنفون أن الفائدة تدفع لتعوض الخسارة التي يعاني منها الممول بسسب التضخم الذي يمزق جزء أساسي من القيمة الحقيقية للمال.
تعد هذه الحجة ضعيفة لأن معدلات الفائدة بالرغم من كونها سببًا رئيسيًا للتضخم من بين عوامل أخرى لا تقوم على معدل التضخم. إذا كانت الفائدة تعويضًا عن التضخم فينبغي أن يتوافق معدل الفائدة مع معدل التضخم دائمًا وبالتأكيد ليس هذا هو الحال. بل تحدد معدلات الفائدة وفقًا لعرض وطلب الأموال لا لمعدل التضخم في وقت التعاقد وإذا حدث أي توافق بين المعدلين في وقت ما فيكون بالمصادفة لا غير.
يقترح آخرون أن تبويب القروض يمكن أن يكون بديلًا مناسبًا للقروض الحالية التي تحمل فائدة، حيث أكدوا أن الممول يجب تعويضه عن تآكل قيمة المال الذي قدمه للمقترض ومن ثم فيحق له مطالبة مبلغ إضافي يتناسب مع معدل التضخم. وعلى ذلك فيمكن تقديم التبويب داخل النظام المصرفي كبديل عن الفائدة. ولكن تبويب القروض يعني إعطاء الممول القيمة الحقيقية للمبلغ الأساسي بناءًا على معدل التضخم، ومن ثم لا يوجد تفريق بين المودعين والمقترضين في هذا الشأن. هذا يعني أن البنك سيستلم من مقترضينه نفس المعدل الذي سيدفعه لمودعينه وكلاهما بناءًا على نفس المعيار أي معدل التضخم. ومن ثم فلن يترك شئ للبنوك ولا يمكن لأي بنك أن يعمل بدون ربح. لا يعد اتخاذ التبويب بديلًا عن الفائدة حلًا عمليًا من وجهة النظر المصرفية.
أكد بعض المستأنفين أن بالرغم من تحريم القرآن الكريم والسنة للفائدة فإن البنوك الحالية لا تتعامل في الفائدة، بل تقوم بتحصيل هامش ربح من عملائها. قدم السيد حافظ شيخ عبد الرحمن، الفقيه القانوني لبنك التنمية الزراعي في باكستان، تاريخًا مفصلًا عن الخطوات القانونية التي اتخدتها حكومة باكستان للتخلص من الفائدة من اقتصادها. وفقًا له تم فرض تصميم جميع أنواع التمويل لجميع أنواع العملاء بما فيهم الأفراد على أساس خالي من الفائدة بموجب 1 أبريل 1998، وفي 1 يوليو 1995، تم وقف قبول الودائع التي تحمل فائدة وإلزام الودائع أن تقوم على أساس المشاركة في الربح والخسارة باستثناء الحسابات الجارية التي لا تجذب أي عائد. وقام بنك باكستان المركزي بإجازة 12 طريقة تمويل تخلو من الفائدة للبنوك والمؤسسات المالية من أجل تنفيذ هذا الأمر. كما قامت الحكومة بتعديل عدد كبير من القوانين المالية للتخلص من الفائدة، وبعد اتخاذ جميع هذه الخطوات لم تعد الفائدة مطبقة في المعاملات المصرفية للدولة. جميع البنوك اليوم تعمل تحت 12 طريقة مختلفة للتمويل كما أعلنهم بنك باكستان المركزي.
التاريخ الذي قدمه السيد حافظ شيخ عبد الرحمن صحيح وبالفعل اقترح بنك باكستان المركزي 12 طريقة من طرق التمويل بدلًا من الفائدة ولكن -على نحو عملي- لم تستخدم البنوك والمؤسسات المالية سوى 2 او 3 من طرق التمويل بشكل طبيعي، على رأسهم هامش الربح. ومع ذلك لا تعد الطريقة التي تستخدم بها البنوك اليوم هامش الربح سوى تغيير لمصطلحات المعاملة، فعمليًا ما يحدث هو استبدال اسم فائدة باسم هامش الربح. قدم مجلس العقيدة الإسلامية مفهوم هامش الربح في تقريره عن القضاء على الربا لحكومة باكستان في عام 1980. واقترح المجلس في الواقع أن البديل الحقيقي للفائدة هو المشاركة في الربح والخسارة القائمة على المشاركة والمضاربة مع وجود بعض المجالات التي لا يصلح أن يقوم التمويل بها على أساس المشاركة والمضاربة ولذلك اقترح المجلس تقنية تعرف عادة بالبنوك الإسلامية باسم المرابحة. وفقًا للمرابحة، بدلًا من دفع قرض نقدي، يقوم البنك الممول بشراء السلعة التي يحتاجها العميل من السوق ويبيعها له على أساس دفع مؤجل مقابل هامش ربح مضاف للتكلفة. هذا لا يعد تمويلًا بالمعنى الدقيق بل بيعًا لسلعة في صالح العميل. يتضمن مفهوم هذه المعاملة النقاط التالية:
- يجوز تنفيذ هذه المعاملة فقط عندما يريد العميل أن يشتري سلعة ولا يمكن تنفيذها في حالة إذا كان العميل يرغب في الحصول على مال لغرض معين غير شراء سلعة مثل النفقات الإضافية ودفع الرواتب وتسوية الفواتير أو الالتزامات الأخرى.
- لكي تصح المعاملة فمن الضروري أن يقوم البنك بشراء السلعة بالفعل وتنتقل ملكيتها (الفعلية أوالتبعية) له بحيث يتحمل مخاطر السلعة بقدر ما تظل في حيازته.
- ينبغي بيع السلعة للعميل بعد الحصول على ملكيتها بيعًا شرعيًا.
- كما اقترح المجلس أن هذه الأداة يجوز استخدامها على الحد الأدنى في الحالات التي لا يمكن تطبيق المشاركة والمضاربة عليها لسبب أو آخر.
عند تطبيق هذه التقنية بالبنوك والمؤسسات المالية تم إغفال جميع النقاط السابقة بشكل كامل وكانت النتيجة أنه لم يحدث أي تغيير جاد في نظام الفائدة بالبنوك.
رأى د. محمد إسلام حقي أنه إذا اشترطت معاملة التمويل حصول الممول على عائد ثابت دون اعتبار إذا كان الطرف المقترض قد حقق ربحًا أو عانى من خسارة، فيعتبر هذا ربا. أما إذا اعتمدت معاملة التمويل على مشاركة الطرفين في تحمل الخسارة بالتناسب مع الاستثمارات الخاصة بهما فهذا يكفي كثيرًا لصحة المعاملة وبعد ذلك يمكن اتفاق الطرفين على شرط أنه في حالة تحقيق ربح فيستحق الممول نسبة محددة من الربح المنسوب إلى استثماره الأصلي. وبهذا ستصبح المعاملة معاملة قراض والتي تعد جائزة شرعيًا.
لا يدعم القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الرأي ولم يدعمه أي فقيه أيضًا طوال الأربعة عشر قرن. يترادف مصطلح القراض في أدب الفقه الإسلامي مع المضاربة وأجمعت جميع مدارس الفقه الإسلامي أنه في اتفاق المضاربة لا يمكن تخصيص نسبة من الربح المنسوب إلى الاستثمار للممول وأي إجراء مثل هذا يمنعه الفقهاء.
أكد السيد صديق الفاروق، المدير العام لمؤسسة تمويل الإسكان أن القرآن الكريم أجاز أكل لحم الخنزير في حالة الجوع الشديد لإنقاذ حياة فرد. أصبح النظام القائم على الفائدة الآن ضرورة عالمية ولا تستطيع دولة العيش بدونه. ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم قام بتحريم الفائدة ولكن تنفيذ هذا التحريم على مستوى البلدان قد يكون فعلًا انتحاريًا يدمر الاقتصاد بأكمله ولذلك لا ينبغي اعتبارالفائدة منافية لأوامر الإسلام.
يعد مبدأ الضرورة إحدى المبادئ التي يقدسها القرآن الكريم والسنة ويفسرها الفقهاء المسلمين، ولكن هناك معايير محددة يوضحها الفقهاء المسلمون في ضوء القرآن الكريم والسنة لتحديد حجم الضرورة والحد الذي يمكن إليه ان يخفف حكم قرآني على أساس حالة طارئة. عند تحليل حالة الفائدة وجدنا أن هناك قدر كبير من المبالغة في التصور أن القضاء على الفائدة سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد.
تقوم التصورات المضادة للقضاء على الفائدة على بعض المفاهيم الخاطئة غالبًا فيما يخص المعاملات المحلية. يظن كثير من الناس أن التخلص من الفائدة يعني تحويل البنوك إلى مؤسسات خيرية وأن البنك في النظام الإسلامي سيقوم بتقديم المال بدون عائد وأن المودعين لن يحصلوا على شئ مقابل وضع أموالهم لدى البنوك. بل يقصد من جعل البنوك والمؤسسات المالية موافقة للشريعة الإسلامية أن تقوم بالتمويل على أساس المشاركة في الربح والخسارة وطرق أخرى إسلامية للتمويل والتي لا يخلو أي منها من الحصول على عائد.
ويعتقد آخرون أن النظام المصرفي البديل القائم على قواعد الإسلام لم يتم تصميمه بعد ولا ممارسته ولذلك تنفيذه على نحو مفاجئ سيؤدي إلى دخولنا إلى دائرة مظلمة ومعتمة وتعريض أنفسنا لأخطار غير منظورة قد تتسبب في تدمير لاقتصاد بالكامل. يعمل الفقهاء والاقتصاديون المسلمون على مختلف جوانب الصيرفة الإسلامية من مختلف الأبعاد منذ 50 عامًا وبدءًا من السبعينيات من القرن الماضي تحول مفهوم البنوك الإسلامية إلى مؤسسات فعلية تعمل وفقًا للخطوط الإسلامية. وتزايد عدد البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية في العالم خلال الثلاثة عقود السابقة. ذكر السيد إقبال أحمد خان، مدير قطاع الصيرفة الإسلامية لإتش إس بي سي لندن الذي ظهر كمستشار قانوني في هذه القضية، أن عدد البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية قد وصل إلى أكثر من 200 عبر 65 بلد في العالم برأس مال يبلغ 90 بليون دولار أمريكي يزداد بنسبة 15% سنويًا. كما تواجه الصيرفة الإسلامية العديد من المسائل في معاهد البحث وحلقات الدراسة والبرامج التدريبية والجماعات المتخصصة منذ اجتيازها المرحلة الأولى حيث يعقد كل عام عدد كبير من الندوات وورش العمل والمؤتمرات في مناطق مختلفة من العالم وهناك يقوم الفقهاء المسلمون وعلماء الاقتصاد والمصرفيون والممارسون بتصنيف المشاكل العملية وإيجاد حلول لها. ومن هنا يتضح أن صناعة الصيرفة الإسلامية ليست فكرة خيالية.
هيا نفحص الآن السمات الرئيسية لنظام الصيرفة الإسلامية المقترح.
تعد السمة الرئيسية للتمويل الإسلامي الاعتماد على المشاركة في الربح والخسارة بدلًا من تحديد نسبة ثابتة من الفائدة ولقد ناقشنا بالفعل العواقب الوخيمة التي تنتج عن الاقتصاد القائم على الدين. وبإدراك مساوئ هذا النظام يؤيد الآن الكثير من علماء الاقتصاد، حتى بعض علماء الغرب، النظام المالي القائم على حقوق الملكية. على سبيل المثال، أوصى جون توملينسون –عالم اقتصاد كندي من أوكسفورد- بشدة على تحويل الدين إلى حقوق ملكية في كتابه "المال النزيه" حيث أوضح المميزات التي ستعود على المجتمع المصرفي والسوق والأفراد. ومن ثم فإن انعدام العدالة والاستقرار والصدمات التجارية التي صنعها النظام المالي الحالي القائم على الدين قد أجبر الغرب أنفسهم على التفكير في نظام قائم على حقوق الملكية لديه القدرة على تحقيق عدالة توزيعية واستقرار. فمن المتوقع أن يحظى المودعين بعائد أكبر بكثير مما يحصلون عليه اليوم في شكل فائدة والتي غالبًا ما تصبح سالبة بالأرقام الحقيقية بسبب التضخم الذي نتج عن انتشار المال القائم على الدين بشكل غالب. كما سيحول هذا النظام تدفق الثروات في اتجاه البسطاء من الناس وسيقوم بتشجيع الادخار وتحقيق ازدهار تدريجي ومتوازن.
بعض الاعتراضات على التمويل بالمشاركة
يقال أن نظام المشاركة أكثر احتمالًا لتكبيد خسائر تجارية للبنك أو المؤسسة الممولة وللمودعين أيضًا. وعندما يتعرض المودعين لمخاطر الخسائر بشكل دائم، لن يرغبوا في إيداع أموالهم في البنوك والمؤسسات المالية ومن ثم ستصبح مدخراتهم خاملة أو سيتم استخدامها في معاملات خارج القنوات المصرفية مما سيعيق المشاركة في التطوير الاقتصادي على المستوى القومي.
تقوم هذه الحجة على فهم خاطئ لأن البنوك والمؤسسات المالية تقوم بإجراء دراسات عميقة وتتخذ الاحتياطات اللازمة قبل المشاركة، كما أنه لا يمكن لأي بنك أو مؤسسة مالية أن يتقيدا بمشاركة واحدة. بل سيكون هناك محفظة متنوعة من المشاركات. إذا قام بنك بتمويل 100 من عملائه على أساس المشاركة بعد دراسة جدوى اقتراحات كل منهم، فمن الصعب الاقتناع أن جميع هذه المشاركات أو معظمها ستؤدي إلى خسارة. ولكن ما يمكن حدوثه، بعد اتخاذ الخطوات المناسبة والعناية الواجبة، أن يتسبب بعضها في خسارة. وعلى الجانب الآخر من المتوقع أن يفوق العائد على المشاركات المربحة عائد القروض القائمة على فائدة لأنه من المفترض أن يوزع الربح الفعلي بين العميل والبنك. كما أن وضع البنوك والمؤسسات المالية يزداد قوة عن الشركات المساهمة التي تنحصر أنشطتها على عدد محدود من الأنشطة التجارية نظرًا لأن أنشطة المشاركة بالبنوك ستكون متنوعة بحيث تعوض أي خسارة محتمل حدوثها لمشاركة ما بالأرباح المكتسبة من المشاركات الأخرى.
انعدام الأمانة
يتصور آخرون أن العملاء المحتالين قد يستغلوا أداة المشاركة في عدم دفع أي عائد للممولين، فيمكنهم دائمًا إظهار أن الأنشطة التجارية لا تجلب أي ربح.
لا يصعب حل هذه المسألة كما هو متصور بشكل عام إذا تم إدارة جميع البنوك في دولة ما وفقًا للنموذج الإسلامي بدعم من البنك المركزي أو الحكومة. أولًا سيتم تطبيق نظام التصنيف الائتماني بشكل صارم بحيث تلتزم كل الشركات أو المؤسسات قانونيًا بالخضوع إلى تصنيف ائتماني مستقل. ثانيًا ينبغي تطبيق نظام معد جيدًا لتدقيق للحسابات للحفاظ على حسابات جميع العملاء بشكل كامل وفحصها على نحو لائق. حتى وإن ظل هناك إمكانية لوجود بعض حالات انعدام الأمانة بعد اتخاذ هذه الاحتياطات، ستحد الخطوات الجزائية والمناخ العام للعمل من عدد هذه الحالات بشكل تدريجي.
لا تنحصر الصيرفة الإسلامية على المشاركة في الربح والخسارة. يوجد مجموعة متنوعة من الأدوات التي يجوز تطبيقها على جانب الأصول في البنوك مثل المضاربة والإيجار والسلم والاستصناع .. إلخ. يشكل بعض من هذه النماذج مخاطرة أقل ويجوز اختيارها إذا وجد في المشاركة مخاطرغير طبيعية أو كانت غير قابلة للتطبيق في معاملة معينة. احتج بعض المستأنفين على قيام المحكمة الشرعية الاتحادية في حكمها المفند بإعلان نظام هامش الربح نظام منافي لأحكام الإسلام أيضًا مما يعني أنه لا يمكن استخدام المرابحة كطريقة شرعية للتمويل في البنوك الإسلامية.
يعود هذا الاحتجاج إلى فهم خاطئ. لم تقض المحكمة الشرعية الاتحادية بعدم شرعية معاملة المرابحة، بل اقترحت المرابحة لتمويل الصادرات في الفقرة 367 من حكمها. قضت المحكمة بأن "نظام هامش الربح كما هو رائج" منافي للأحكام الإسلامية وعبرت عن تصورها بأن هذا النظام سيتعرض لسوء الاستخدام وسيتم تطبيقه بدون إتمام الشروط اللازمة على أساس واسع النطاق ولن يحقق اختلافًا كبيرًا عن النظام الحالي. وقد لاحظنا بالفعل أن نظام "هامش الربح كما هو رائج في باكستان" لا يمثل معاملة مرابحة على الحد الأدنى، بل يعتبر مجرد تغيير للاسماء.
تعد المرابحة في الأصل بيعًا وليس تمويلًا ومن ثم عليها أن تطابق جميع المعايير الأساسية للبيع. فيجوز استخدامها فقط عندما يرغب العميل فعليًا في شراء سلعة ويكون على البنك شرائها من المزود الأصلي وبعد نقلها إلى ملكيته الفعلية أو التبعية يقوم ببيعها للعميل. وهذه هي السمة الأساسية للمرابحة التي تميزها عن التمويل القائم على الفائدة وما إن تم الإغفال عنها تدخل المعاملة في نطاق التمويل القائم على الفائدة المحرم.
عند استبدال المال بالمال لا يجوز وضع زيادة سواء في معاملة نقدية أو ائتمانية ولكن عند بيع سلعة مقابل مال قد يزيد السعر المتفق عليه من جانب الأطراف عن سعر السوق في المعاملات النقدية والائتمانية. قد يمثل توقيت الدفع عاملًا مساعدًا لتحديد سعر السلعة ولكن لا يمكنه أن يمثل الأساس الحصري والاعتبار الكلي للزيادة المطلوب دفعها في استبدال المال بالمال وهذا ما اتفقت عليه جميع مدارس الشرع الإسلامي بالإجماع وغالبية الفقهاء المسلمين ويعد هذا هو الوضع القانوني الصحيح لمعاملة المرابحة الموافقة للشريعة. ومع ذلك لا ينبغي استخدام المرابحة إلا في الحالات التي يصعب تنفيذ المشاركة والمضاربة بها نظرًا لأنها عرضة لسوء الاستخدام ولا تمثل طريقة مثالية للتمويل الإسلامي.
ومن ثم لا يمكن تطبيق مبدأ الضرورة لحماية نظام الفائدة الحالي للأبد أو لفترة غير محددة ولكن يمكن استغلال هذا المبدأ في إعطاء الوقت اللازم للحكومة للتحويل إلى نظام مالي إسلامي يخلو من الفائدة.
تشكل عملية التخلص من الفائدة من القروض الحكومية صعوبة كبيرة. في الوقت الحالي تعد حكومة باكستان مثقلة بالديون المحلية والأجنبية.
تتمثل خلاصة الاقتراحات البديلة في تصميم قروض الحكومة من المصادر المحلية على أساس تمويل المشروعات. سيسهم هذا، بالإضافة إلى كونه مطابقًا للشريعة، في ضبط الفساد وقمع اختلاص الأموال المقترضة. نرى أنه في هذا الشأن أيضًا لا ينبغي اعتبار الفائدة ضرورة لتستمر لفترة غير محددة، ولكن يجوز تبرير احتياج هذا الأمر لمزيد من الوقت لتحقيق التحويل مقارنة بالمعاملات المصرفية للأفراد.
القروض الأجنبية
يقال أنه في الغالب يستحيل تحويل هذا النوع من الاقتراض لأساس خال من الفائدة. في البداية كان اقتراض الاموال من المصادر الدولية من أجل مشاريع التنمية، ثم اتسع نطاق الاقتراض الأجنبي ليشمل نفقات أخرى لا تتعلق بالتنمية. بعد ذلك تم اقتراض مبالغ هائلة لخدمة الدين مع دفع فائدة للمقرضين الأجانب. يتضح الآن أن فكرة مساعدة القروض الأجنبية للدول النامية في مشروعات التنمية الخاصة بها فكرة خاطئة في حالة وجود عدد كبير من دول العالم الثالث. وهذه هي الحقيقة التي يقرها علماء الاقتصاد المستقلون بشكل متزايد.
كشف الباحث الكندي جاكويس جيليناس في كتابه "التحرير من الدين" المستفيد الحقيقي من هذا النظام. حيث قال:
" أثبت نموذج التنمية القائم على الدعم الأجنبي ضعفه في إخراج دولة واحدة من الاعتماد الاقتصادي والمالي. بل اتضح أن الأمر مصدر ثروة خرافية لبعض نخب العالم الثالث لتكوين صورة جديدة من القوى وفئة اجتماعية سياسية يمكن تسميتها بشكل صحيح باسم ’الإيدوقراطية ‘ (أوتوقراطية الدعم) ."
علينا أن نبذل قصارى جهدنا لإعادة التفاوض مع المقرضين لتحويل القروض الحالية إلى طرق تمويل إسلامية حتى في هذه الفترة المتخللة. وبفضل المناخ الذي صنعته الصيرفة الإسلامية أصبحت هذه الطرق معروفة عند الغرب حتى أن المؤسسات المالية الدولية قامت بإجراء دراسات لاستيعابها. أعربت مؤسسة التمويل الدولية، فرع التمويل الخاص بالبنك الدولي، عن رغبتها في استخدام بعض طرق التمويل الإسلامية. يمكن بسهولة تحويل القروض المتعلقة بالأصول إلى نظام الإجارة ويمكن إعادة تصميم القروض المتعلقة بالمشروعات على أساس الاستصناع فليس من الصعب التفاوض لتحويل القروض الحالية على الخطوط الإسلامية. كما تتاح مجموعة كبيرة من الطرق للتمويلات الجديدة ليتم تصميمها على أساس الأحكام الإسلامية. لا يمكن تحقيق هذا إلا إذا كانت الحكومة ذاتها تلتزم التزامًا راسخًا بالأحكام الإسلامية وترغب رغبة صادقة في تنفيذ ما يفرضه الإسلام.
قام رئيس وزراء باكستان في 17 نوفمبر 1990بتعيين لجنة من الخبراء لتحليل اعتماد الدولة المتزايد على الدعم الأجنبي وتصميم خطة للحد من هذا الاعتماد وإنشاء إستراتيجية تطوير قائمة على الاعتماد الذاتي. وتم تسليم تقرير اللجنة إلى الحكومة في أبريل عام 1991. بعد المشاورات توصلت اللجنة أنه حتى على الأساس الاقتصادي الخالص، لن يتم تحقيق هدف الاعتماد الذاتي إلا بالقضاء على الفائدة. ومن هنا يمكن الاستفادة بتوصيات اللجنة عند مناقشة مسألة القروض الأجنبية.